عصام بكار موسس المنتدى
عدد المساهمات : 29907 نٍقـآإطٍـِـِ/يٌ ||~: : 86701 السٌّمعَة : 61 تاريخ التسجيل : 09/12/2009
| موضوع: السيرة الذاتـــية لنهر دجلة !! الأربعاء أكتوبر 06, 2010 1:02 pm | |
| السيرة الذاتـــية لنهر دجلة !!
[size=29][center]السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
السيرة الذاتـــية لنهر دجلة [/center]
[center]من خمسة عقود مضت, كان النهر دجلة, ابرز معالم بغداد الجمالية, ان لم يكن اجملها على الاطلاق, وقد حرص قدامى البغداديين, وموسروهم خاصة على بناء منازلهم بناء محكماً في اساسه ومسانده الحديدية, عند الضفة مباشرة, بحيث تطل شرفات البيت وشناشيله الطابوقية على الماء مباشرة, وفي مواسم الفيضانات او ارتفاع مناسيب المياه في دجلة, التي تصل ذروة ارتفاعها في شهر نيسان, تبدو الشرفات وكانها مبنية في اعماق النهر كما تُبنى حاملات الجسور الكونكريتية العملاقة... وربما كان هذا التماس المباشر بين المنازل وبين التيارات المائية العنيفة, لايخلو من مخاطر, لولا البناء المحكم, ومع ذلك كان سكان هذه الدور يديرون ظهورهم, ولا يقيمون وزناً لمخاطر المناسيب المرتفعة, ليس لكونها لن تدوم اكثر من اسابيع قلائل فقط, وانما لان متعتهم البصرية والنفسية على مدار السنة, وبالذات اشهر الصيف القائظة التي تمتد الى قرابة ثمانية شهور, تجعلهم يغضون الطرف عن مناكدات النهر الغاضب بضعة اسابيع او لم تكن المنازل وحدها تستأثر بمتع دجلة الشخصية, بل كانت المقاهي كذلك, فالعديد منها يطل على الماء مباشرة, كما هو الحال في ساحة الشهداء والعطيفية وسوق الخفافين ومدخل سوق البزازين وغيرها من المقاهي التي كانت مصدر جذب للزبائن.
ثمة الكثير من سعادات (دجلة) واسرارها التي طمرها الزمن في زمن قياسي مازالت ماثلة حية في ذهن العديد من الشهود وذاكرتهم التي لم تستسلم لمتاعب الشيخوخة, ويُّعد الشاعر الكبير ابراهيم النجار (81 عاماً) احد الشهود الذين تتوقد ذاكرتهم المتعلفية بحكايات النهر وسيرته الذاتية.
في نونيته الرائعة, ابتدع الشاعر الكبير, محمد مهدي الجواهري, نسباً يليق بمكانة دجلة عندما اضافها الى الخير في مطلع قصيدته ذائعة الصيت (حييتُ سفحك عن بعد فحييني – يادجلة الخير ياأُمّ البساتين), فهل ظلت دجلة كذلك, وهل مازال الجمال معقوداً على نواحيها؟!
يقول السيد النجار: في الحقيقة تغيرت بعض معالم النهر, واختفت معالم اخرى, ولعل في مقدمة الاشياء التي اختفت, والى الأبد, هي الجسور القديمة التي كانت تُصنعّ من الخشب وتحمل على الدوب (سفن صغيرة), وتربط بالحبال,
وكان عددها 3 جسور, والعبور عليها سواء من السابلة, او الحيوانات المحملة بالبضائع والخضروات, ليس مجانياً, وانما بدفع (رسم) بسيط هو (4 فلوس) للانســـان و(8 فلسات) للبضائع (الدينار الواحد يساوي الف فلس), ومن طرائف هذه الجسور انها لاتتحمل احياناً التيارات المائية القوية فتتقطع حبالها وتغادر مكانها هي ومن عليها الى مكان آخر!!
ومن مشاهد دجلة التي لم يعد لها وجود منذ ستينات القرن الماضي هي (الجراديغ-جمع جرداغ), وهي ابنية بسيطة ومؤقتة تُقام في فصل الصيف فقط وعلى حنفة النهر مباشرة, والبناء يتكون من بضعة اعمدة خشبية مع عدد من الحصران المصنوعة من قصب البردي وتسمى (البارية), وتقوم هذه (البواري) مقام الجدران والسقف, ولاتزيد مساحة الجرداغ عن مساحة غرفة متوسطة الحجم, وقد جرت العادة ان يقضي الشباب والرجال الاكبر سناً اوقاتاً طويلة في هذه الاماكن, تبدأ من العصر وقد تستمر الى منتصف الليل.
*ماذا يفعلون كل هذا الوقت؟
يمرحون ويمزحون وينزلون الى النهر, ويتسابقون, وبالطبع يحضرون معهم الطعام والفاكهة, وغالباً مايكون الليل مخصصاً للاغاني, وعلينا ان لاننسى بأن المناطق التي كانت تقام فيها هذه (الغرف), خالية من السكان, أي لاتوجد حولها او بالقرب منها أية منازل, لان بغداد في تلك العقود لم تكن بهذه السعة العمرانية. من معالم دجلة ومناظرها التي لاتنسى يقول السيد ابراهيم النجار مواصلاً حديثه, هو مشهد (شموع الخضر), وهو معتقد ديني تمارسه النساء ايفاء لنذر قطعنه على أنفسهن, وهذا المعتقد يقضي ان تقوم المرأة بأحضار (كربة) او اكثر من كرب النخيل وتضع فوقها عدداً من الشموع الموقدة ثم تدفع الكرب في النهر حيث ينساب طافياً فوق سطح الماء مع مجرى النهر, ولما كان ذلك يتم وقت غروب الشمس, وهو امر يصعب على المرأة تنفيذه لوحدها كون الغروب وقتاً محبب لخروج المرأة بمفردها, لذلك كان الحضور الى دجلة يجري على هيأة مجاميع نسوية, وهذا يعني دفع عشرات الكرب مع مجرى الماء مرة واحدة مما يخلق منظراً خلاباً لان النهر يُضاء بمئات الشموع, ومع ان هذا (الطقس) مازال موجوداً الى اليوم ولكن انحسر بصورة كبيرة جداً, بحيث يمكن القول بأنه بات من الحالات النادرة.
على ان احلى ماكنا نشاهده –والحديث للنجار- في اوقات الصيف هي (الشرايع-جمع شريعة), وهي مناطق خاصة بالمحلات البغدادية القريبة من النهر, حيث يتجمع اطفالها وصبيانها وفتيانها وشبابها ورجالها في (شرايعهم), هذا يتعلم السباحة, وهذا يسبح وهذا يتسابق وكان الشباب يتسابقون عادة بقطع دجلة (عبوره) ذهاباً وإياباً من دون توقف, وكثيراً ماكانت هذه السباقات تأخذ صورة (رهان) وهناك حكام يشرفون على السباق, ويجب ان نتذكر هنا افتقار العاصمة يومها الى المسابح, كما يجب ان نتذكر المشهد الممتع لاؤلئك الذين يرمون بأنفسهم من سياج الجسر الى النهر بحركات رياضية رشيقة تثير الاعجاب والخوف. اشياء كثيرة لم نعد نراها, ويصمت قليلاً وكأنه يتأمل امراً ما, ثم يقول كمن استذكر شيئاً: دجلة لم تكن كما هي اليوم, لقد قتلها الاهمال وتراجع عرضها كثيراً عما كان عليه بسبب ظهور الجزرات المائية والبردي وعدم كري النهر من سنوات طويلة.
انها العنوان الاول لجمال دجلة, لاشيء يضاهي النهر اوقات العصر بالذات, حيث عشرات الزوارق تعوم فوق الماء وهي تقوم بسفرات نهرية, سواء للعوائل ام للشباب, وان كانت الصفة الغالية هي للشباب وهم ينقرون على (الدنابك), الآلة الموسيقية الشعبية ويطلقون اصواتهم لترديد الاغاني الشائعة يومها.
وكان الزورق, او مايعرف بـ(البلم) احد اهم وسائط النقل بين كرخ بغداد ورصافتها, الى جانب واسطة نقل اخرى وهي (القفة) والتي انسحبت لصالح الزورق منذ منتصف خمسينات القرن الماضي, وكانت القفف والزوارق قبل بناء الجسور الحديدية ودخول المركبات الى العراق, هي وسائط النقل الاكثر شهرة ورواجاً في بغداد, وكان المرسى الاساسي لها في منطقة الجعيفر (جانب الكرخ) حيث تقل العابرين الى منطقة باب المعظم (جانب الرصافة) عند مدينة الطب حالياً, حيث توجد وقتها اهم مؤسسة صحية في العراق, وهي مستشفى (المجيدية) نسبة الى مؤسسها, السلطان العثماني عبدالمجيد, ولاتزال بعض ابنيتها مستغلة ضمن مدينة الطب الى الوقت الحاضر اود الاشارة هنا يقول النجار الى ان اشهر العاملين في الزوارق يومها هو المرحوم (جبوري البلام), والناس تطمئن الى عبور دجلة في زورقه اكثر من الاخرين مع ان هذا الرجل كان فاقد البصر (اعمى) ولكنه يعرف النهر شبراً شبراً كما لو انه على اليابسة... ومن جماليات دجلة البغدادية المحصورة يومها بين الكاظمية والباب الشرقي, هو منظر صيادي السمك وشباكهم الممتدة على طول النهر وخاصة في اوقات الصباح الباكر, وقد ادى ذلك الى انتعاش العديد من المهن والحرف كصناعة الزوارق الخشبية وشباك الصيد وصيد الاسماك والنقل المائي.
*هل عرفت دجلة الزوارق البخارية؟
الزوارق الخاصة بالصيد والزوارق الخاصة بالنقل والموزعة على اكثر من مكان, جميعها تعتمد على المجاديف اليدوية, ومع ذلك كانت هنالك زوارق بخارية (خاصة اذا جازت التسمية, وهي محدودة جداً ولاتستعمل للنقل او الصيد وانما للنزهة فقط, واصحابها من علية القوم, مثال ذلك زورق البلاط الملكي وزورق الملك علي وبعض الزوارق الاخرى التابعة لبيت السويدي وبيت النواب والنقيب او تابعة للمندوب السامي البريطاني والقنصلية الفرنسية وبعض اثرياء اليهود, ومن طريف مايرويه السيد ابراهيم النجار, بأن ظهور النساء السافرات في تلك الزوارق او المراكب البخارية الخاصة بالاجانب كان مدعاة (فرجة) لاهالي بغداد لان مشهد السفور غريب عليهم!
كان على اصحاب الزوارق, وعلى الاخص في العقود المتأخرة من القرن الماضي ان يستسلموا ويرفعوا الراية البيضاء, معترفين بأنتصار خصمهم الحضاري وهو يقيم اكثر من عشرة جسور حديثة تربط جانبي بغداد, ويدفع بعشرات الآلاف من المركبات الكبيرة والصغيرة العامة والخاصة, ومن شتى الانواع والاصناف والمسميات.
لقد انحسرت او كادت تنحسر مهنتة النقل المائي بالزوارق في نهر دجلة, وتوقفت صناعة البلم التي لايحسن صناعتها الا نجارون ماهرون يعرفون انواع الخشب واسرار الموازنة الدقيقة, وتراجعت او توقفت تماماً خلال السنوات الاخيرة –مع تردي الاوضاع الامنية- السفرات النهرية, وهكذا ركن بعض (البلاّمة) زوارقهم جانبهم, وقام بعضهم بهجرها تماماً والبحث عن عمل جديد في مواجهة اضطرارية لكساد (بضاعتهم) التي اسلمتهم الى آفة البطالة.
في زيارة (تفقدية) للنهر بعد ان دبت الحياة فوق مياهه من جديد التقينا عدداً من المواطنين الذين يفضلون استخدام واسطة النقل المائي, وبعض اصحاب الزوارق.
يقول المحامي خليل محمد: طبيعة عملي تقتضي التنقل بين الكرخ والرصافة, اكثر من مرة في اليوم الواحد احياناً, وامام الزحام غير المعقول الذي تشهده العاصمة قد احتاج الى ساعة ونصف او ساعتين لكي انتقل بين جانبي بغداد, بينما لايستغرق العبور بالبلم اكثر من 3-5 دقائق, فأين هذا الوقت من ذاك, ويعلق السيد نوري حسين (طالب جامعي), الحضارة العظيمة لو كانت من غير مساوى, لقد اصبحت السيارات مصدر تأخير على مواعيد العمل والدوام ومصدر دخان وعوادم وغازات قاتلة تملأ اجواءنا ونتنفسها مكرهين, وعلق مواطن آخر وهو يهمُّ بصعود الزورق: العبور في البلم يجعلنا نتفنس هواء نقياً, وقال المواطن كمال سليم (صاحب محل في شارع النهر): انا اترك سيارتي في المنزل واعبر بواسطة البلم يومياً في الذهاب والاياب, لان شوارعنا اصبحت لاتطاق, فالمركبات اكثر من الناس, والاسلاك الشائكة والعوارض الكونكريتية إستولت على نصف الطرقات, ومفارز التفتيش والسيطرة العراقية والاجنبية تقطع الشوارع بصورة مفاجئة, ومن غير المعقول ان يستغرق عبوري الجسر ساعة كاملة او اكثر, ليس امامنا حل غير الزوارق النهرية... احدى السيدات وهي تصطحب ولدها قالت: انا في الحقيقة اخاف (ركوب) البلم, ولكنني شيئاً فشيئاً اعتدت عليه, انه لطيف ويخلصني من فوضى الزحام ودوخة الرأس!
السيد (ابو موسى) من قدامى العاملين في هذه المهنة يقول: منذ 53 عاماً وانا مع الزوارق, كنت طفلاً ارافق ابي ايام كان البلم يسير بقوة المجاديف ويحتاج الى قوة عضلية وخيرة في تحديد الاتجاهات, وقد حافظت على عملي في النهر حتى في سنوات الكساد التي تعرضنا فيها لاذى كبير, ويشاطره الرأي صاحب زورق آخر هو السيد فرحان جواد مشيراً الى ان هذه المهنة ليست مجزية وبالكاد نتدبر امور المعيشة ولكننا نعشقها ولا نستطيع مغادرتها الى عمل آخر, وتدخل صاحب زورق آخر في الحوار قائلاً: ان سائق الاجرة –من غير حسد- يحصل على خمسة اضعاف او اكثر مما نحصل عليه في اليوم الواحد, مع اننا نقدم نفس الخدمة للراكب, بل افضل, لاننا نوفر اوقاتاً ثمينة لهم, في الحقيقة اجورنا متدنية جداً و...وقاطعه بلام آخر: بالطبع نحن نتمنى ان تكون الاجور موزاية لعملنا, ولكننا في الوقت نفسه لانريد ان يقال عن استغلاليون.. الحمدلله على كل حال [/size] [/center] | |
|