الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد :
عَنْ أبي رقية تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( الدِّينُ النَّصِيحَةُ ) قُلْنَا لِمَنْ ؟ ، قال : ( لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ) " فما هي النصيحة ؟؟؟ وكيف ننصح لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين ؟؟؟؟
الشرح : حديثنا الذي نتناوله في هذا المقال حديث عظيم ، وهو من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكفيك دلالة على أهميته أنه يجمع أمر الدين كله في عبارة واحدة ، وهي قوله صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة ) ، فجعل الدين هو النصيحة ، كما جعل الحج هو عرفة ، إشارةً إلى عظم مكانها ، وعلو شأنها في ديننا الحنيف .
والنصيحة ليست فقط من الدين ، بل هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فإنهم قد بعثوا لينذروا قومهم من عذاب الله ، وليدعوهم إلى عبادة الله وحده وطاعته ، فهذا نوح عليه السلام يخاطب قومه ، ويبين لهم أهداف دعوته فيقول : { أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم } وعندما أخذت الرجفة قوم صالح عليه السلام ، قال : { يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين } .
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يحذو حذو من سبقه من إخوانه الأنبياء ، ويسير على منوالهم، فيضرب لنا أروع الأمثلة في النصيحة ، وتنوع أساليبها ، ومراعاتها لأحوال الناس واختلافها ، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد موقفه الحكيم عندما بال الأعرابي في المسجد ، فلم ينهره ، بل انتظره حتى فرغ من حاجته ، يروي أبو هريرة رضي الله عنه تلك الحادثة فيقول : " بال أعرابيٌ في المسجد ، فثار إليه الناس ليقعوا به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعوه ، وأهريقوا على بوله ذنوبا من ماء ، أو سجلا من ماء ؛ فإنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين ) رواه البخاري .
ويظن البعض أن النصيحة هي أن تقول لأخيك افعل كذا ولا تفعل كذا وهذا خير لك (أي أن تقول له هذا خير وهذا شر ) وفي الحقيقة هذا بعض أو جزء من النصيحة بل إن النصيحة أكبر من هذا لأنه لو كان هذا معناها فكيف ننصح لله ، هل نقول له افعل كذا وكذا وهذا خير وهذا شر ، الله سبحانه و تعالى يعلم الخير والشر وليس بحاجة لأن نخبره عما يفعل ” و لا يسئل عمل يفعل “ .
فالنصيحة لساناً هي : أداء كل ما يلزم أداءه / كل ما هو واجب فعله من خير و نفع .
الدليل قوله تعالى ” فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين“ أي : أخبرتكم ونقلت لكم ما أرسلني الله به و أديت كل ما يلزم للنجاة ( من خير و نفع وتحذير و زجر ودعوتكم وأنذرتكم وبينت لكم ) ، فلا يكفي أن يقف نبي على ربوة أو جبل فيقول يا قوم افعلو كذا ولا تفعلوا كذا ، وهذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه لما أهلكهم اللّه بمخالفته إياه وتمردهم على اللّه، وإبائهم عن قبول الحق، وإعراضهم عن الهدى إلى العمى .
وقوله تعالى ” قالوا ياأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون ) .
فيوسف - عليه السلام - كان في ذلك الوقت غلام صغير يحتاج الى (رعاية وعناية و حفظ ) أكثر من أن يقولوا له افعل كذا أو هذا خير وهذا شر و مما يؤيد هذا القول أن اخوة يوسف قالوا لابيهم ” ما لك لا تأمنا “ أن ترسل معنا يوسف أخانا ونحن سنتكفل بكل ما يلزمه من رعاية وحفظ ولا تقلق عليه ....
وقوله تعالى ” هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون “ فكيف سينصح (أهل البيت) لموسى عليه السلام وهو طفل صغير لا يفهم ولا يعي شيئاً مما تقول إذا كان معنى النصيحة هو أن تقول لأخيك أفعل كذا أو لا تفعل أو أم هذا خير لك وهذا شر لك فظهر جلياً أن هذا بعض النصيحة . بل النصيحة تقتضي أن تؤدي كل ما وجب عليك فعله تجاه هذا الشخص أو غيره .
وفي الحديث الذي بين أيدينا ، حدد النبي صلى الله عليه وسلم مواطن النصيحة ، وأول هذه المواطن :
النصيحة لله وتتضمن أمرين : الأمر الاول هو إخلاص العبادة لله عز وجل . كما أن من معاني النصيحة الإخلاص و التخليص يقال : " نصح العسل " أي : خلصه من شوائبه . وإذا كان كذلك فإن إخلاص كل شيء بحسبه ، فالإخلاص لكتاب الله أن تحسن تلاوته ، كما قال عزوجل : { ورتل القرآن ترتيلا } ، وأن تتدبر ما فيه من المعاني العظيمة ، وتعمل بما فيه ، ثم تعلمه للناس .
فإذا أديت أمر الله كما وجب عليك و كما أمرك فقد نصحت لله .
الأمر الثاني هو الشهادة له بالوحدانية و أنه رب العالمين و خالق الكون ومدبر الأمور .
و النصيحة لكتابه تتضمن أموراً منها : تصديق خبره تصديقاً جازماً لا مرية فيه ( مثل أخبار الأمم السابقة ، والإيمان بالغيب ، والأمور التي لا علم لنا بها إلا من خلال الكتاب مثل البعث و الحشر و اليوم الآخر ) فلو كذب خبراً من أخبار القرآن لم يكن ناصحاً لله كذلك من شك وتردد .
الأمر الثاني : هو امتثال أمره فما ورد فيه من أوامر أو منهيات كل بحسب ما يقتضيه . فمن لم يمتثل فليس بناصح لكتاب الله .
الأمر الثالث : أن تؤمن بأن ما تضمنه من الأحكام هي خير الأحكام .
و النصيحة لرسوله تتضمن : تجريد المتابعة له وأن لا تتبع غيره لقوله تعالى ” لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر “ فالله إختاره وارتضاه أن يكون رسولاً مبلغاً عنه .
الأمر الثاني : تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم أن تؤمن بأنه لم يكذب ( بفتح الياء و إسكان الكاف) ولم يكذب ( بالضم ) فهو صادق مصدوق .
الأمر الثالث : أن تمتثل أمره وتجتنب نهيه و تذب ( بضم التاء ) عنه وعن شريعته .
الأمر الرابع : أن تؤمن بأن ما جاء به الرسل هو كما جاء / نزل من عند الله في لزوم العمل به لأن منبع القرآن والسنة واحد وكلاهما وحي من عند الله .
والمقصود بأئمة المسلمين العلماء والأمراء على السواء ، فالعلماء هم أئمة الدين ، والأمراء هم أئمةٌ الدنيا ، فأما النصح للعلماء : فيكون بتلقّي العلم عنهم ، والالتفاف حولهم ، ونشر مناقبهم بين الناس ، حتى تتعلّق قلوب الناس بهم، ومن النصح لهم : عدم تتبع أخطائهم وزلاتهم ، فإن هذا من أعظم البغي والعدوان عليهم، وفيه من تفريق الصف وتشتيت الناس ما لا يخفى على ذي بصيرة .
وأما النصيحة لأئمة المسلمين فتكون بإعانتهم على القيام بما حمّلوا من أعباء الولاية ، وشد أزرهم على الحق ، وطاعتهم في المعروف . كما جاء في الحديث : ” ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لولاة الأمر ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم “
والموطن الرابع من مواطن النصيحة : عامة الناس ، وغاية ذلك أن تحب لهم ما تحب لنفسك، فترشدهم إلى ما يكون لصالحهم في معاشهم ومعادهم ، وتهديهم إلى الحق إذا حادوا عنه ، وتذكّرهم به إذا نسوه ، متمسكا بالحلم معهم والرفق بهم ، وبذلك تتحقق وحدة المسلمين ، فيصبحوا كالجسد الواحد : ( إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) .
فهذه هي مواطن النصيحة التي أرشدنا إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا عملنا بها حصل لنا الهدى والرشاد ، والتوفيق والسداد .
الدين : مبتدأ مرفوع بالضمة و النصيحة : خبر المبتدأ مرفوع بالضمة و إذا كان المبتدأ و الخبر معرفان ( بأل التعريف ) فإن هذا من طرق الحصر على الصحيح كأنه يريد أن يقول ما الدين إلا النصيحة .
وأبهم النبي صلى الله عليه وسلم لمن تكون النصيحة حتى يستعلم و يستفهم الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك ، لأن وقوع الشيء مجملاً ثم مفصلاً من أسباب رسوخ العلم ، لأن الشيء إذا أتى مجملاً تطلعت النفس الى بيان و تفصيل و معرفة هذا المجمل .
وقوله ( عن أبي رقية) هذه كنية بأنثى والغالب أن الكنية تكون بذكر و لكن تكون بأنثى لا سيما إذا اشتهرت هذه الكنية ، كأبي هريرة رضر الله عنه اشتهر بهذه الكنية من أجل انه كان يحمل في كنه هرة ألفها وأبفته فكني ( بضم الكاف وكسر النون وفتح الياء المشددة ) بأبي هريرة نسبةً إلى الهرة